الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اللَّهِ وَصَبْرِهِ عَلَى أَذَى الْمُنَافِقِينَ: 3356- قَوْله: «رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَاف تَحْته قَطِيفَة فَدَكِيَّة» (الْإِكَاف) بِكَسْرِ الْهَمْزَة، وَيُقَال: وِكَاف أَيْضًا، وَالْقَطِيفَة: دِثَار مُخَمَّل، جَمْعهَا قَطَائِف وَقُطُف، وَالْفَدَكِيَّة: مَنْسُوبَة إِلَى فَدَك بَلْدَة مَعْرُوفَة عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاث مِنْ الْمَدِينَة.قَوْله: «وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَة وَهُوَ يَعُود سَعْد بْن عُبَادَةَ» فيه: جَوَاز الْإِرْدَاف عَلَى الْحِمَار وَغَيْره مِنْ الدَّوَابّ إِذَا كَانَ مُطِيقًا، وَفيه: جَوَاز الْعِيَادَة رَاكِبًا.وَفيه: أَنَّ رُكُوب الْحِمَار لَيْسَ بِنَقْصٍ فِي حَقّ الْكِبَار.قَوْله: «عَجَاجَة الدَّابَّة» هُوَ مَا اِرْتَفَعَ مِنْ غُبَار حَوَافِرهَا.قَوْله: «خَمَّرَ أَنْفه» أَيْ: غَطَّاهُ.قَوْله: «فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فيه: جَوَاز الِابْتِدَاء بِالسَّلَامِ عَلَى قَوْم فيهمْ مُسْلِمُونَ وَكُفَّار، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ.قَوْله: «أَيّهَا الْمَرْء لَا أَحْسَن مِنْ هَذَا» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا بِأَلِفٍ فِي (أَحْسَن)، أَيْ لَيْسَ شَيْء أَحْسَن مِنْ هَذَا، وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ جَمَاهِير رُوَاة مُسْلِم، قَالَ: وَوَقَعَ الْقَاضِي أَبِي عَلِيّ (الْأَحْسَن مِنْ هَذَا) بِالْقَصْرِ مِنْ غَيْر أَلِف، قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ عِنْدِي أَظْهَر، وَتَقْدِيره: أَحْسَن مِنْ هَذَا أَنْ تَقْعُد فِي بَيْتك وَلَا تَأْتِينَا.قَوْله: «فَلَمْ يَزَلْ يُخَفِّضُهُمْ» أَيْ: يُسَكِّنهُمْ وَيُسَهِّل الْأَمْر بَيْنهمْ.قَوْله: «وَلَقَدْ اِصْطَلَحَ أَهْل هَذِهِ الْبُحَيْرَة» بِضَمِّ الْبَاء عَلَى التَّصْغِير، قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَيْنَا فِي غَيْر مُسْلِم (الْبُحَيْرَة) مُكَبَّرَة، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنًى، وَأَصْلهَا الْقَرْيَة، وَالْمُرَاد بِهَا هُنَا مَدِينَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.قَوْله: «وَلَقَدْ اِصْطَلَحَ أَهْل هَذِهِ الْبُحَيْرَة أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيَعْصِبُوهُ بِالْعِصَابَةِ» مَعْنَاهُ: اِتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ مَلِكهمْ، وَكَانَ مِنْ عَادَتهمْ إِذَا مَلَّكُوا إِنْسَانًا أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيَعْصِبُوهُ.قَوْله: (شَرِقَ بِذَلِكَ) بِكَسْرِ الرَّاء، أَيْ: غَصَّ، وَمَعْنَاهُ: حَسَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ نِفَاقه عَافَانَا اللَّه الْكَرِيم.قَوْله: (وَذَلِكَ قَبْل أَنْ يُسْلِم عَبْد اللَّه) مَعْنَاهُ: قَبْل أَنْ يُظْهِر الْإِسْلَام، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا ظَاهِر النِّفَاق.3357- قَوْله (وَهِيَ أَرْض سَبَخَة) هِيَ بِفَتْحِ السِّين وَالْبَاء، وَهِيَ: الْأَرْض الَّتِي لَا تُنْبِت لِمُلُوحَةِ أَرْضهَا.وَفِي هَذَا الْحَدِيث: بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحِلْم وَالصَّفْح وَالصَّبْر عَلَى الْأَذَى فِي اللَّه تَعَالَى وَدَوَام الدُّعَاء إِلَى اللَّه تَعَالَى وَتَأَلُّف قُلُوبهمْ. وَاَللَّه أَعْلَم..باب قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ: 3358- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَنْظُر إِلَيْنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْل؟» سَبَب السُّؤَال عَنْهُ أَنْ يَعْرِف أَنَّهُ مَاتَ لِيَسْتَبْشِر الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَيَنْكَفّ شَرّه عَنْهُمْ.قَوْله: «ضَرَبَهُ اِبْنَا عَفْرَاء حَتَّى بَرَكَ» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ (بَرَكَ) بِالْكَافِ، وَفِي بَعْضهَا (بَرَدَ) بِالدَّالِ، فَمَعْنَاهُ بِالْكَافِ: سَقَطَ إِلَى الْأَرْض، وَبِالدَّالِ: مَاتَ، يُقَال: بَرَدَ إِذَا مَاتَ، قَالَ الْقَاضِي: رِوَايَة الْجُمْهُور (بَرَدَ) وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِالْكَافِ، قَالَ: وَالْأَوَّل هُوَ الْمَعْرُوف، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَاخْتَارَ جَمَاعَة مُحَقِّقُونَ الْكَاف، وَأَنَّ اِبْنَيْ عَفْرَاء تَرَكَاهُ عَفِيرًا، وَبِهَذَا كَلَّمَ اِبْن مَسْعُود كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم، وَلَهُ مَعَهُ كَلَام آخَر كَثِير مَذْكُور فِي غَيْر مُسْلِم، وَابْن مَسْعُود هُوَ الَّذِي أَجْهَزَ عَلَيْهِ وَاحْتَزَّ رَأْسه.قَوْله: «وَهَلْ فَوْق رَجُل قَتَلْتُمُوهُ» أَيْ: لَا عَار عَلَيَّ فِي قَتْلكُمْ إِيَّايَ.قَوْله: «لَوْ غَيْر أَكَّار قَتَلَنِي؟!!» (الْأَكَّار): الزَّرَّاع وَالْفَلَّاح، وَهُوَ عِنْد الْعَرَب نَاقِص، وَأَشَارَ أَبُو جَهْل إِلَى اِبْنَيْ عَفْرَاء اللَّذَيْنِ قَتَلَاهُ وَهُمَا مِنْ الْأَنْصَار، وَهُمْ أَصْحَاب زَرْع وَنَخِيل، وَمَعْنَاهُ: لَوْ كَانَ الَّذِي قَتَلَنِي غَيْر أَكَّار لَكَانَ أَحَبّ إِلَيَّ وَأَعْظَم لِشَأْنِي، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ نَقْص فِي ذَلِكَ..باب قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ طَاغُوتِ الْيَهُودِ: 3359- ذَكَرَ مُسْلِم فيه قِصَّة مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ مَعَ كَعْب بْن الْأَشْرَف بِالْحِيلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ مُخَادَعَته، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي سَبَب ذَلِكَ وَجَوَابه، فَقَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيُّ: إِنَّمَا قَتَلَهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَجَاهُ وَسَبَّهُ، وَكَانَ عَاهَدَهُ أَلَّا يُعِين عَلَيْهِ أَحَدًا، ثُمَّ جَاءَ مَعَ أَهْل الْحَرْب مُعِينًا عَلَيْهِ، قَالَ: وَقَدْ أَشْكَلَ قَتْله عَلَى هَذَا الْوَجْه عَلَى بَعْضهمْ، وَلَمْ يَعْرِف الْجَوَاب الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ هَذَا الْجَوَاب، وَقِيلَ: لِأَنَّ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ لَمْ يُصَرِّح لَهُ بِأَمَانٍ فِي شَيْء مِنْ كَلَامه، وَإِنَّمَا كَلَّمَهُ فِي أَمْر الْبَيْع وَالشِّرَاء، وَاشْتَكَى إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامه عَهْد وَلَا أَمَان، قَالَ: وَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول إِنَّ قَتْله كَانَ غَدْرًا، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ إِنْسَان فِي مَجْلِس عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَأَمَرَ بِهِ عَلِيّ فَضُرِبَ عُنُقه، وَإِنَّمَا يَكُون الْغَدْر بَعْد أَمَان مَوْجُود، وَكَانَ كَعْب قَدْ نَقَضَ عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُؤَمِّنهُ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ وَرُفْقَته، وَلَكِنَّهُ اِسْتَأْنَسَ بِهِمْ فَتَمَكَّنُوا مِنْهُ مِنْ غَيْر عَهْد وَلَا أَمَان.وَأَمَّا تَرْجَمَة الْبُخَارِيّ عَلَى هَذَا الْحَدِيث بِبَابِ الْفَتْك فِي الْحَرْب فَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْحَرْب، بَلْ الْفَتْك هُوَ الْقَتْل عَلَى غِرَّة وَغَفْلَة، وَالْغِيلَة نَحْوه، وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيث بَعْضهمْ عَلَى جَوَاز اِغْتِيَال مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَة مِنْ الْكُفَّار وَتَبْيِيته مِنْ غَيْر دُعَاء إِلَى الْإِسْلَام.قَوْله: «اِئْذَنْ لِي فَلْأَقُلْ» مَعْنَاهُ: اِئْذَنْ لِي أَنْ أَقُول عَنِّي وَعَنْك مَا رَأَيْته مَصْلَحَة مِنْ التَّعْرِيض، فَفيه دَلِيل عَلَى جَوَاز التَّعْرِيض، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ بَاطِنه صَحِيح وَيَفْهَم مِنْهُ الْمُخَاطَب غَيْر ذَلِكَ، فَهَذَا جَائِز فِي الْحَرْب وَغَيْرهَا، مَا لَمْ يَمْنَع بِهِ حَقًّا شَرْعِيًّا.قَوْله: «وَقَدْ عَنَّانَا» هَذَا مِنْ التَّعْرِيض الْجَائِز بَلْ الْمُسْتَحَبّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي الْبَاطِن أَنَّهُ أَدَّبَنَا بِآدَابِ الشَّرْع الَّتِي فيها تَعَب لَكِنَّهُ تَعَب فِي مَرْضَاة اللَّه تَعَالَى، فَهُوَ مَحْبُوب لَنَا، وَاَلَّذِي فَهِمَ الْمُخَاطَب مِنْهُ الْعَنَاء الَّذِي لَيْسَ بِمَحْبُوبٍ.قَوْله: «وَأَيْضًا وَاَللَّه لِتَمَلُّنَّهُ» هُوَ بِفَتْحِ التَّاء وَالْمِيم، أَيْ: تَضْجَرُونَ مِنْهُ أَكْثَر مِنْ هَذَا الضَّجَر.قَوْله: «يُسَبّ اِبْن أَحَدنَا فَيُقَال: رُهِنَ فِي وَسْقَيْنِ مِنْ تَمْر» هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات الْمَعْرُوفَة فِي مُسْلِم وَغَيْره (يُسَبّ) بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح السِّين الْمُهْمَلَة مِنْ السَّبّ، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة بَعْض الرُّوَاة كِتَاب مُسْلِم (يَشِبّ) بِفَتْحِ الْيَاء وَكَسْر الشِّين الْمُعْجَمَة مِنْ الشَّبَاب، وَالصَّوَاب الْأَوَّل و(الْوَسْق) بِفَتْحِ الْوَاو وَكَسْرهَا، وَأَصْله: الْحِمْل.قَوْله: (نَرْهَنك اللَّأْمَة) هِيَ بِالْهَمْزَةِ، وَفَسَّرَهَا فِي الْكِتَاب بِأَنَّهَا السِّلَاح وَهُوَ كَمَا قَالَ.قَوْله: (وَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيه بِالْحَارِثِ وَأَبُو عَبْس بْن جَبْر وَعَبَّاد بْن بِشْر) أَمَّا (الْحَارِث) فَهُوَ: الْحَارِث بْن أَوْس بْن أَخِي سَعْد بْن عُبَادَةَ، وَأَمَّا (أَبُو عَبْس) فَاسْمه عَبْد الرَّحْمَن، وَقِيلَ: عَبْد اللَّه، وَالصَّحِيح الْأَوَّل، وَهُو: (جَبْر) بِفَتْحِ الْجِيم وَإِسْكَان الْبَاء كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَاب، وَيُقَال: اِبْن جَابِر، وَهُوَ أَنْصَارِيّ مِنْ كِبَار الصَّحَابَة، شَهِدَ بَدْرًا وَسَائِر الْمَشَاهِد، وَكَانَ اِسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة عَبْد الْعُزَّى، وَهُوَ وَقَعَ فِي مُعْظَم النُّسَخ. وَأَبُو عَبْس بِالْوَاوِ، وَفِي بَعْضهَا (وَأَبِي عِيس) بِالْيَاءِ، وَهَذَا ظَاهِر، وَالْأَوَّل صَحِيح أَيْضًا، وَيَكُون مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِير فِي يَأْتِيه.قَوْله: (كَأَنَّهُ صَوْت دَم) أَيْ: صَوْت طَالِب أَوْ سَوْط سَافِك دَم، هَكَذَا فَسَّرُوهُ.قَوْله: (فَقَالَ إِنَّمَا هَذَا مُحَمَّد وَرَضِيعه وَأَبُو نَائِلَة) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ، قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: قَالَ لَنَا شَيْخنَا الْقَاضِي الشَّهِيد: صَوَابه أَنْ يُقَال إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّد وَرَضِيعه أَبُو نَائِلَة، وَكَذَا ذَكَرَ أَهْل السِّيَر أَنَّ أَبَا نَائِلَة كَانَ رَضِيعًا لِمُحَمَّدِ بْن مَسْلَمَةَ، وَوَقَعَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ (وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَة) قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي لَهُ وَجْه إِنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ رَضِيعًا لِمُحَمَّدٍ. وَاَللَّه أَعْلَم..باب غَزْوَةِ خَيْبَرَ: 3360- قَوْله: «فَصَلَّيْنَا عِنْدهَا صَلَاة الْغَدَاة بِغَلَسٍ» فيه: اِسْتِحْبَاب التَّبْكِير بِالصَّلَاةِ أَوَّل الْوَقْت، وَأَنَّهُ لَا يُكْرَه تَسْمِيَة صَلَاة الصُّبْح غَدَاة، فَيَكُون رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابنَا: إِنَّهُ مَكْرُوه، وَقَدْ سَبَقَ شَرْح حَدِيث أَنَس هَذَا فِي كِتَاب الْمُسَاقَاة، وَذَكَرْنَا أَنَّ فيه: جَوَاز الْإِرْدَاف عَلَى الدَّابَّة إِذَا كَانَتْ مُطِيقَة، وَأَنَّ إِجْرَاء الْفَرَس وَالْإِغَارَة لَيْسَ بِنَقْصٍ وَلَا هَادِم لِلْمُرُوءَةِ، بَلْ هُوَ سُنَّة وَفَضِيلَة، وَهُوَ مِنْ مَقَاصِد الْقِتَال.قَوْله: «وَانْحَسَرَ الْإِزَار عَنْ فَخِذ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لَأَرَى بَيَاض فَخِذ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» هَذَا مِمَّا اِسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَاب مَالِك وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى أَنَّ الْفَخِذ لَيْسَتْ عَوْرَة مِنْ الرَّجُل، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب آخَرِينَ أَنَّهَا عَوْرَة، وَقَدْ جَاءَتْ بِكَوْنِهَا عَوْرَة أَحَادِيث كَثِيرَة مَشْهُورَة، وَتَأَوَّلَ أَصْحَابنَا حَدِيث أَنَس رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ اِنْحَسَرَ بِغَيْرِ اِخْتِيَاره لِضَرُورَةِ الْإِغَارَة وَالْإِجْرَاء، وَلَيْسَ فيه أَنَّهُ اِسْتَدَامَ كَشْف الْفَخِذ مَعَ إِمْكَان السَّتْر، وَأَمَّا قَوْل أَنَس: «فَإِنِّي لَأَرَى بَيَاض فَخِذه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَمَحْمُول عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَصَره عَلَيْهِ فَجْأَة، لَا أَنَّهُ تَعَمَّدَهُ، وَأَمَّا رِوَايَة الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَرَ الْإِزَار، فَمَحْمُولَة عَلَى أَنَّهُ اِنْحَسَرَ كَمَا فِي رِوَايَة مُسْلِم، وَأَجَابَ بَعْض أَصْحَاب مَالِك عَنْ هَذَا فَقَالَ: هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ أَنْ يَبْتَلِيه بِانْكِشَافِ عَوْرَته، وَأَصْحَابنَا يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ اِخْتِيَار الْإِنْسَان فَلَا نَقْص عَلَيْهِ فيه، وَلَا يَمْتَنِع مِثْله.قَوْله: «اللَّه أَكْبَر خَرِبَتْ خَيْبَر» فيه: اِسْتِحْبَاب التَّكْبِير عِنْد اللِّقَاء، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: تَفَاءَلَ بِخَرَابِهَا بِمَا رَآهُ فِي أَيْدِيهمْ مِنْ آلَاتِ الْخَرَاب مِنْ الْفُؤُوس وَالْمَسَاحِيّ وَغَيْرهَا، وَقِيلَ: أَخَذَهُ مِنْ اِسْمهَا، وَالْأَصَحّ أَنَّهُ أَعْلَمَهُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْم فَسَاءَ صَبَاح الْمُنْذَرِينَ» (السَّاحَة): الْفِنَاء، وَأَصْلهَا: الْفَضَاء بَيْن الْمَنَازِل، فَفيه: جَوَاز الِاسْتِشْهَاد فِي مِثْل هَذَا السِّيَاق بِالْقُرْآنِ فِي الْأُمُور الْمُحَقَّقَة، وَقَدْ جَاءَ لِهَذَا نَظَائِر كَثِيرَة، كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا فِي فَتْح مَكَّة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل يَطْعُن فِي الْأَصْنَام وَيَقُول: «جَاءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِئ الْبَاطِل وَمَا يُعِيد، جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِل».قَالَ الْعُلَمَاء: يُكْرَه مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى ضَرْب الْأَمْثَال فِي الْمُحَاوَرَات وَالْمَزْح وَلَغْو الْحَدِيث، فَيُكْرَه فِي كُلّ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى.قَوْله: (مُحَمَّد) (وَالْخَمِيس) هُوَ الْجَيْش، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ قَالُوا: سُمِّيَ خَمِيسًا لِأَنَّهُ خَمْسَة أَقْسَام: مَيْمَنَة وَمَيْسَرَة وَمُقَدِّمَة وَمُؤَخِّرَة وَقَلْب، قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَيْنَاهُ بِرَفْعِ (الْخَمِيس) عَطْفًا عَلَى قَوْله (مُحَمَّد) وَبِنَصَبِهَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول مَعَهُ.قَوْله: (أَصَبْنَاهَا عَنْوَة) هِيَ بِفَتْحِ الْعَيْن، أَيْ: قَهْرًا لَا صُلْحًا، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَاهِر هَذَا أَنَّهَا كُلّهَا فُتِحَتْ عَنْوَة، وَقَدْ رَوَى مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب أَنَّ بَعْضهَا فُتِحَ عَنْوَة، وَبَعْضهَا صُلْحًا، قَالَ: وَقَدْ يُشْكِل مَا رُوِيَ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ قَسَمَهَا نِصْفَيْنِ، نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَته، وَنِصْفًا لِلْمُسْلِمِينَ.قَالَ: وَجَوَابه مَا قَالَ بَعْضهمْ أَنَّهُ كَانَ حَوْلهَا ضِيَاع وَقُرَى أَجْلَى عَنْهَا أَهْلهَا، فَكَانَتْ خَالِصَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا سِوَاهَا لِلْغَانِمِينَ، فَكَانَ قَدْر الَّذِي خَلَوْا عَنْهُ النِّصْف، فَلِهَذَا قُسِمَ نِصْفَيْنِ، قَالَ الْقَاضِي: فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْإِغَارَة عَلَى الْعَدُوّ يُسْتَحَبّ كَوْنهَا أَوَّل النَّهَار عِنْد الصُّبْح، لِأَنَّهُ وَقْت غِرَّتهمْ وَغَفْلَة أَكْثَرهمْ، ثُمَّ يُضِيء لَهُمْ النَّهَار لِمَا يُحْتَاج إِلَيْهِ، بِخِلَافِ مُلَاقَاة الْجُيُوش وَمُصَافَفَتِهِمْ وَمُنَاصَبَة الْحُصُون؛ فَإِنَّ هَذَا يُسْتَحَبّ كَوْنه بَعْد الزَّوَال، لِيَدُومَ النَّشَاط بِبَرْدِ الْوَقْت بِخِلَافِ ضِدّه.3361- قَوْله: (وَخَرَجُوا بِفُؤُوسِهِمْ وَمَكَاتِلهمْ وَمُرُورهمْ) (الْفُؤُوس): بِالْهَمْزَةِ، جَمْع فَأْس بِالْهَمْزَةِ، كَرَأْسٍ وَرُءُوس، و(الْمَكَاتِل): جَمْع مِكْتَل بِكَسْرِ الْمِيم، وَهُوَ: الْقُفَّة، يُقَال لَهُ: مِكْتَل، وَقُفَّة وَزَبِيل وَزَنْبِل زِنْبِيل وَعِرْق وَسَفِيفَة بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَبِفَاءَيْنِ، و(الْمُرُور): جَمْع مَرّ بِفَتْحِ الْمِيم وَهِيَ الْمَسَاحِيّ، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: هِيَ حِبَالهمْ الَّتِي يَصْعَدُونَ بِهَا إِلَى النَّخْل، وَاحِدهَا: مَرّ وَمُرّ، وَقِيلَ: مَسَاحِيّهمْ وَاحِدهَا: مَرّ، لَا غَيْر.3363- قَوْله: (أَلَا تُسْمِعنَا مِنْ هُنَيَّاتك) وَفِي بَعْض النُّسَخ (مِنْ هُنَيْهَاتك) أَيْ: أَرَاجِيزك، وَالْهَنَة يَقَع عَلَى كُلّ شَيْء، وَفيه: جَوَاز إِنْشَاء الْأَرَاجِيز وَغَيْرهَا مِنْ الشِّعْر وَسَمَاعهَا مَا لَمْ يَكُنْ فيه كَلَام مَذْمُوم، وَالشِّعْر كَلَام حَسَنه حَسَن، وَقَبِيحه قَبِيح.قَوْله: (فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ) فيه: اِسْتِحْبَاب الْحُدَا فِي الْأَسْفَار، لِتَنْشِيطِ النُّفُوس وَالدَّوَابّ عَلَى قَطْع الطَّرِيق وَاشْتِغَالهَا بِسَمَاعِهِ عَنْ الْإِحْسَاس بِأَلَمِ السَّيْر.قَوْله: «اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اِهْتَدَيْنَا» كَذَا الرِّوَايَة قَالُوا وَصَوَابه فِي الْوَزْن (لَا هُمَّ أَوْ وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْتَ) كَمَا فِي الْحَدِيث الْآخَر: «فَوَاَللَّهِ لَوْلَا اللَّه».قَوْله: «فَاغْفِرْ فِدَاء لَك مَا اِقْتَفَيْنَا» قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذِهِ اللَّفْظَة مُشْكِلَة، فَإِنَّهُ لَا يُقَال: فَدَى الْبَارِي سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَلَا يُقَال لَهُ سُبْحَانه: فَدَيْتُك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَل فِي مَكْرُوه يُتَوَقَّع حُلُوله بِالشَّخْصِ فَيَخْتَار شَخْص آخَر أَنْ يَحِلّ ذَلِكَ بِهِ وَيَفْدِيه مِنْهُ، قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ غَيْر قَصْد إِلَى حَقِيقَة مَعْنَاهُ، كَمَا يُقَال: قَاتَلَهُ اللَّه، وَلَا يُرَاد بِذَلِكَ حَقِيقَة الدُّعَاء عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرِبَتْ يَدَاك وَتَرِبَتْ يَمِينك وَوَيْل أُمّه» وَفيه كُلّه ضَرْب مِنْ الِاسْتِعَارَة؛ لِأَنَّ الْفَادِي مُبَالِغ فِي طَلَب رِضَى الْمُفَدَى حِين بَذَلَ نَفْسه عَنْ نَفْسه لِلْمَكْرُوهِ، فَكَانَ مُرَاد الشَّاعِر أَنِّي أَبْذُل نَفْسِي فِي رِضَاك، وَعَلَى كُلّ حَال، فَإِنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفه إِلَى جِهَة صَحِيحَة، فَإِطْلَاق اللَّفْظ وَاسْتِعَارَته وَالتَّجَوُّز بِهِ يَفْتَقِر إِلَى وُرُود الشَّرْع بِالْإِذْنِ فيه، قَالَ: وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ: فِدَاء لَك رَجُلًا يُخَاطِبهُ، وَفَصَلَ بَيْن الْكَلَام، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَاغْفِرْ ثُمَّ دَعَا إِلَى رَجُل يُنَبِّههُ، فَقَالَ: فِدَاء لَك ثُمَّ عَادَ إِلَى تَمَام الْكَلَام الْأَوَّل فَقَالَ: مَا اِقْتَفَيْنَا، قَالَ: وَهَذَا تَأْوِيل يَصِحّ مَعَهُ اللَّفْظ، وَالْمَعْنَى لَوْلَا أَنَّ فيه تَعَسُّفًا اِضْطَرَّنَا إِلَيْهِ تَصْحِيح الْكَلَام، وَقَدْ يَقَع فِي كَلَام الْعَرَب مِنْ الْفَصْل بَيْن الْجُمَل الْمُعَلَّق بَعْضهَا بِبَعْضٍ مَا يُسَهِّل هَذَا التَّأْوِيل.قَوْله: «إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا» هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا (أَتَيْنَا) بِالْمُثَنَّاةِ فِي أَوَّله، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ رُوِيَ بِالْمُثَنَّاةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ، فَمَعْنَى الْمُثَنَّاة: إِذَا صِيحَ بِنَا لِلْقِتَالِ وَنَحْوه مِنْ الْمَكَارِم أَتَيْنَا، وَمَعْنَى الْمُوَحَّدَة: أَبَيْنَا الْفِرَار وَالِامْتِنَاع، قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: قَوْله: (فِدَاء لَك) بِالْمَدِّ وَالْقَصْر وَالْفَاء مَكْسُورَة، حَكَاهُ الْأَصْمَعِيّ وَغَيْره، فَأَمَّا فِي الْمَصْدَر فَالْمَدّ لَا غَيْر، قَالَ: وَحَكَى الْفَرَّاء (فَدًى لَك) مَفْتُوح مَقْصُور، قَالَ: وَرَوَيْنَاهُ هُنَا (فِدَاء لَك) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأ وَخَبَره، أَيْ لَك نَفْسِي فِدَاء، أَوْ نَفْسِي فِدَاء لَك، وَالنَّصْب عَلَى الْمَصْدَر. وَمَعْنَى: «اِقْتَفَيْنَا»: اِكْتَسَبْنَا، وَأَصْله الِاتِّبَاع.قَوْله: «وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا» اِسْتَغَاثُوا بِنَا، وَاسْتَفْزَعُونَا لِلْقِتَالِ، قِيلَ: هِيَ مِنْ التَّعْوِيل عَلَى الشَّيْء وَهُوَ الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ، قِيلَ: مِنْ الْعَوِيل وَهُوَ الصَّوْت.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ هَذَا السَّائِق؟ قَالُوا: عَامِر، قَالَ: يَرْحَمهُ اللَّه، قَالَ رَجُل مِنْ الْقَوْم: وَجَبَتْ يَا رَسُول اللَّه لَوْلَا أَمْتَعْتنَا بِهِ» مَعْنَى (وَجَبَتْ) أَيْ: ثَبَتَتْ لَهُ الشَّهَادَة، وَسَيَقَعُ قَرِيبًا، وَكَانَ هَذَا مَعْلُومًا عِنْدهمْ أَنَّ مَنْ دَعَا لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الدُّعَاء فِي هَذَا الْمَوْطِن اُسْتُشْهِدَ، فَقَالُوا: (هَلَّا أَمْتَعْتنَا بِهِ) أَيْ: وَدِدْنَا أَنَّك لَوْ أَخَّرْت الدُّعَاء لَهُ بِهَذَا إِلَى وَقْت آخَر؛ لِنَتَمَتَّع بِمُصَاحَبَتِهِ وَرُؤْيَته مُدَّة.قَوْله: (أَصَابَتْنَا مَخْمَصَة شَدِيدَة) أَيْ جُوع شَدِيد.قَوْله: (لَحْم حُمُر الْإِنْسِيَّة) هَكَذَا هُو: (حُمُر الْإِنْسِيَّة) بِإِضَافَةِ حُمُر، وَهُوَ مِنْ إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صِفَته، وَسَبَقَ بَيَانه مَرَّات، فَعَلَى هَذَا قَوْل الْكُوفِيِّينَ هُوَ عَلَى ظَاهِره، وَعِنْد الْبَصْرِيِّينَ تَقْدِيره حُمُر الْحَيَوَانَات الْإِنْسِيَّة، وَأَمَّا (الْإِنْسِيَّة): فَفيها لُغَتَانِ وَرِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاض وَآخَرُونَ، أَشْهَرهمَا: كَسْر الْهَمْزَة وَإِسْكَان النُّون.قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ رِوَايَة أَكْثَر الشُّيُوخ، وَالثَّانِيَة: فَتْحهمَا جَمِيعًا، وَهُمَا جَمِيعًا نِسْبَة إِلَى الْإِنْس، وَهُمْ النَّاس، لِاخْتِلَاطِهَا بِالنَّاسِ بِخِلَافِ حُمُر الْوَحْش.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا» هَذَا يَدُلّ عَلَى نَجَاسَة لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا الْحَدِيث وَشَرْحه مَعَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب النِّكَاح، وَمُخْتَصَر الْأَمْر بِإِرَاقَتِهِ: أَنَّ السَّبَب الصَّحِيح فيه أَنَّهُ أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا لِأَنَّهَا نَجِسَة مُحَرَّمَة.وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَهَى لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَالثَّالِث: لِأَنَّهَا أَخَذُوهَا قَبْل الْقِسْمَة، وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ هُمَا لِأَصْحَابِ مَالِك الْقَائِلِينَ بِإِبَاحَةِ لُحُومهَا، وَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ.وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُل: أَوْ يُهْرِيقُوهَا وَيَغْسِلُوهَا، قَالَ: أَوَ ذَاكَ» فَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ، فَرَأَى كَسْرهَا ثُمَّ تَغَيَّرَ اِجْتِهَاده أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِغَسْلِهَا.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لَهُ لَأَجْرَانِ» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: «لَأَجْرَانِ» بِالْأَلِفِ وَفِي بَعْضهَا: «لَأَجْرَيْنِ» بِالْيَاءِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ، لَكِنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَشْهَر الْأَفْصَح وَالْأَوَّل لُغَة أَرْبَع قَبَائِل مِنْ الْعَرَب، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وَقَدْ سَبَقَ بَيَانهَا مَرَّات، وَيَحْتَمِل أَنَّ الْأَجْرَيْنِ ثَبَتَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَاهَدَ مُجَاهِد كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي شَرْحه، فَلَهُ أَجْر بِكَوْنِهِ جَاهِدًا أَيْ مُجْتَهِدًا فِي طَاعَة اللَّه تَعَالَى، شَدِيد الِاعْتِنَاء بِهَا، وَلَهُ أَجْر آخَر بِكَوْنِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيل اللَّه، فَلَمَّا قَامَ بِوَصْفَيْنِ كَانَ لَهُ أَجْرَانِ.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِد» هَكَذَا رَوَاهُ الْجُمْهُور مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ (لَجَاهِدٌ) بِكَسْرِ الْهَاء وَتَنْوِينَ الدَّال (مُجَاهِد) بِضَمِّ الْمِيم وَتَنْوِينَ الدَّال أَيْضًا، وَفَسَّرُوا لَجَاهِدٌ بِالْجَادِّ فِي عِلْمه وَعَمَله، أَيْ: لَجَادّ فِي طَاعَة اللَّه، وَالْمُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه، وَهُوَ الْغَازِي، وَقَالَ الْقَاضِي: فيه وَجْه آخَر جَمَعَ اللَّفْظَيْنِ تَوْكِيدًا، قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ: الْعَرَب إِذَا بَالَغَتْ فِي تَعْظِيم شَيْء اِشْتَقَّتْ لَهُ مِنْ لَفْظه لَفْظًا آخَر عَلَى غَيْر بِنَائِهِ زِيَادَة فِي التَّوْكِيد، وَأَعْرَبُوهُ بِإِعْرَابِهِ فَيَقُولُونَ: جَادّ مُجِدّ، وَلَيْل لَائِل وَشِعْر شَاعِر، وَنَحْو ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ بَعْض رُوَاة الْبُخَارِيّ وَبَعْض رُوَاة مُسْلِم: (لَجَاهَدَ) بِفَتْحِ الْهَاء وَالدَّال عَلَى أَنَّهُ فِعْل مَاض (مَجَاهِد) بِفَتْحِ الْمِيم وَنَصْب الدَّال بِلَا تَنْوِينٍ، قَالَ: وَالْأَوَّل هُوَ الصَّوَاب. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَلَّ عَرَبِيّ مَشَى بِهَا مِثْله» ضَبَطْنَا هَذِهِ اللَّفْظَة هُنَا فِي مُسْلِم بِوَجْهَيْنِ، وَذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَيْضًا، الصَّحِيح الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير رُوَاة الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم: «مَشَى بِهَا» بِفَتْحِ الْمِيم وَبَعْد الشِّين يَاء، وَهُوَ فِعْل مَاضٍ مِنْ الْمَشْي، و«بِهَا» جَارّ وَمَجْرُور، وَمَعْنَاهُ: مَشَى بِالْأَرْضِ أَوْ فِي الْحَرْب، وَالثَّانِي: «مُشَابِهًا» بِضَمِّ الْمِيم وَتَنْوِين الْهَاء مِنْ الْمُشَابَهَة، أَيْ: مُشَابِهًا لِصِفَاتِ الْكَمَال فِي الْقِتَال أَوْ غَيْره مِثْله، وَيَكُون (مُشَابِهًا) مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوف أَيْ: رَأَيْته مُشَابِهًا، وَمَعْنَاهُ: قَلَّ عَرَبِيّ يُشْبِههُ فِي جَمِيع صِفَات الْكَمَال، وَضَبَطَهُ بَعْض رُوَاة الْبُخَارِيّ: «نَشَأَ بِهَا» بِالنُّونِ وَالْهَمْز أَيْ: شَبَّ وَكَبِرَ، وَالْهَاء عَائِدَة إِلَى الْحَرْب، أَوْ الْأَرْض، أَوْ بِلَاد الْعَرَب، قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ أَوْجُه الرِّوَايَات.3364- قَوْله: (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب أَخْبَرَنِي يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْد الرَّحْمَن، وَنَسَبَهُ غَيْر اِبْن وَهْب فَقَالَ: اِبْن عَبْد اللَّه بْن كَعْب بْن مَالِك أَنَّ سَلَمَة بْن الْأَكْوَع قَالَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ صَحِيح مُسْلِم، وَهُوَ صَحِيح، وَهَذَا مِنْ فَضَائِل مُسْلِم وَدَقِيق نَظَره، وَحُسْن خِبْرَته، وَعَظِيم إِتْقَانه، وَسَبَب هَذَا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ وَالنَّسَائِيَّ وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَئِمَّة رَوَوْا هَذَا الْحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد عَنْ اِبْن شِهَاب، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْد الرَّحْمَن وَعَبْد اللَّه بْن كَعْب بْن مَالِك عَنْ سَلَمَة قَالَ دَاوُدُ قَالَ أَحْمَد بْن صَالِح: الصَّوَاب عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن كَعْب، وَأَحْمَد بْن صَالِح هَذَا هُوَ شَيْخ أَبِي دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره وَهُوَ رِوَايَة عَنْ اِبْن وَهْب، قَالَ الْحُفَّاظ: وَالْوَهْم فِي هَذَا مِنْ اِبْن وَهْب، فَجَعَلَ عَبْد اللَّه بْن كَعْب رَاوِيًا عَنْ سَلَمَة، وَجَعَلَ عَبْد الرَّحْمَن رَاوِيًا عَنْ عَبْد اللَّه، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، بَلْ عَبْد الرَّحْمَن يَرْوِيه عَنْ سَلَمَة، وَإِنَّمَا عَبْد اللَّه وَالِده، فَذُكِرَ فِي نَسَبه؛ لِأَنَّ لَهُ رِوَايَة فِي هَذَا الْحَدِيث، فَاحْتَاطَ مُسْلِم رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ فَلَمْ يَذْكُر فِي رِوَايَته عَبْد الرَّحْمَن، وَعَبْد اللَّه كَمَا رَوَاهُ اِبْن وَهْب، بَلْ اِقْتَصَرَ عَلَى عَبْد الرَّحْمَن وَلَمْ يَنْسُبْهُ؛ لِأَنَّ اِبْن وَهْب لَمْ يَنْسُبْهُ، وَأَرَادَ مُسْلِم تَعْرِيفه فَقَالَ: قَالَ غَيْر اِبْن وَهْب: هُوَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن كَعْب، فَحَصَلَ تَعْرِيفه مِنْ غَيْر إِضَافَة لِلتَّعْرِيفِ، إِلَى اِبْن وَهْب، وَحَذَفَ مُسْلِم ذِكْر عَبْد اللَّه مِنْ رِوَايَة اِبْن وَهْب، وَهَذَا جَائِز، فَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَدِيث عَنْ رَجُلَيْنِ كَانَ لَهُ حَذْف أَحَدهمَا وَالِاقْتِصَار عَلَى الْآخَر، فَأَجَازُوا هَذَا الْكَلَام إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْر، فَإِذَا كَانَ عُذْر بِأَنْ كَانَ ذِكْر ذَلِكَ الْمَحْذُوف غَلَطًا كَمَا فِي هَذِهِ الصُّورَة كَانَ الْجَوَاز أَوْلَى..باب غَزْوَةِ الأَحْزَابِ وَهِيَ الْخَنْدَقُ: 3365- قَوْله: (الْمَلَا قَدْ أَبَوْا عَلَيْنَا) هُمْ أَشْرَاف الْقَوْم، وَقِيلَ: هُمْ الرِّجَال لَيْسَ فيهمْ نِسَاء، وَهُوَ مَهْمُوز مَقْصُور كَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن، وَمَعْنَى أَبَوْا عَلَيْنَا: اِمْتَنَعُوا مِنْ إِجَابَتنَا إِلَى الْإِسْلَام.وَفِي هَذَا الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب الرَّجَز وَنَحْوه مِنْ الْكَلَام فِي حَال الْبِنَاء وَنَحْوه.وَفيه عَمَل الْفُضَلَاء فِي بِنَاء الْمَسَاجِد وَنَحْوهَا، وَمُسَاعَدَتهمْ فِي أَعْمَال الْبِنَاء.3366- قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة» أَيْ: لَا عَيْش بَاقٍ أَوْ لَا عَيْش مَطْلُوب. وَاَللَّه أَعْلَم..باب غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ وَغَيْرِهَا: 3371- قَوْله: «كَانَتْ لِقَاح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْعَى بِذِي قَرَد» هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَالرَّاء وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة، وَهُوَ مَاء عَلَى نَحْو يَوْم مِنْ الْمَدِينَة مِمَّا يَلِي بِلَاد غَطَفَان، وَاللِّقَاح: جَمْع لِقْحَة بِكَسْرِ اللَّام وَفَتْحهَا وَهِيَ ذَات اللَّبَن، قَرِيبَة الْعَهْد بِالْوِلَادَةِ، وَسَبَقَ بَيَانهَا.قَوْله: «فَصَرَخْت ثَلَاث صَرَخَات: يَا صَبَاحَاهُ» فيه جَوَاز مِثْله لِلْإِنْذَارِ بِالْعَدُوِّ وَنَحْوه.قَوْله: فَجَعَلْت أَرْمِيهِمْ وَأَقُول:فيه جَوَاز قَوْل مِثْل هَذَا الْكَلَام فِي الْقِتَال، وَتَعْرِيف الْإِنْسَان بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ شُجَاعًا؛ لِيُرْعِبَ خَصْمه.وَأَمَّا قَوْله: (الْيَوْم يَوْم الرُّضَّع) قَالُوا: مَعْنَاهُ الْيَوْم يَوْم هَلَاك اللِّئَام، وَهُمْ الرُّضَّع، مِنْ قَوْلهمْ: لَئِيم رَاضِع، أَيْ رَضَعَ اللُّؤْم فِي بَطْن أُمّه، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَمُصّ حَلَمَة الشَّاة وَالنَّاقَة لِئَلَّا يُسْمِع السُّؤَال وَالضِّيفَان صَوْت الْحِلَاب، فَيَقْصِدُوهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَرْضَع طَرَف الْخِلَال الَّذِي يُخَلِّل بِهِ أَسْنَانه، وَيَمُصّ مَا يَتَعَلَّق بِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْيَوْم يُعْرَف مَنْ رَضَعَ كَرِيمَة فَأَنْجَبَتْهُ، أَوْ لَئِيمَة فَهَجَّنَتْهُ.وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْيَوْم يُعْرَف مَنْ أَرْضَعَتْهُ الْحَرْب مِنْ صِغَره، وَتَدَرَّبَ بِهَا. وَيُعْرَف غَيْره.قَوْله: «حَمَيْت الْقَوْم الْمَاء» أَيْ مَنَعْتهمْ إِيَّاهُ.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَلَكْت فَأَسْجِحْ» هُوَ بِهَمْزَةِ قَطْع ثُمَّ سِين مُهْمَلَة سَاكِنَة ثُمَّ جِيم مَكْسُورَة ثُمَّ حَاء مُهْمَلَة، وَمَعْنَاهُ فَأَحْسِنْ وَارْفُقْ، وَالسَّجَاحَة: السُّهُولَة أَيْ لَا تَأْخُذ بِالشِّدَّةِ، بَلْ اُرْفُقْ، فَقَدْ حَصَلَتْ النِّكَايَة فِي الْعَدُوّ وَلِلَّهِ الْحَمْد.3372- قَوْله: (قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَة وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَة) هَذَا هُوَ الْأَشْهَر، وَفِي رِوَايَة: (ثَلَاث عَشْرَةَ مِائَة)، وَفِي رِوَايَة: (خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَة)، قَوْله: «فَقَعَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَبَا الرَّكِيَّة» الْجَبَا بِفَتْحِ الْجِيم وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحَّدَة مَقْصُور، وَهِيَ مَا حَوْل الْبِئْر، وَأَمَّا الرَّكِيّ: فَهُوَ الْبِئْر، وَالْمَشْهُور فِي اللُّغَة: رَكِيّ بِغَيْرِ هَاء، وَوَقَعَ هُنَا الرَّكِيَّة بِالْهَاءِ، وَهِيَ لُغَة حَكَاهَا الْأَصْمَعِيّ وَغَيْره.قَوْله: «فَإِمَّا دَعَا وَإِمَّا بَصَقَ فيها فَجَاشَتْ فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ (بَسَقَ) بِالسِّينِ، وَهِيَ صَحِيحَة يُقَال: (بَزَقَ وَبَصَقَ وَبَسَقَ) ثَلَاث لُغَات بِمَعْنًى، وَالسِّين قَلِيلَة الِاسْتِعْمَال، و(جَاشَتْ) أَيْ اِرْتَفَعَتْ وَفَاضَتْ، يُقَال: جَاشَ الشَّيْء يَجِيش جَيَشَانًا إِذَا اِرْتَفَعَ، وَفِي هَذَا مُعْجِزَة ظَاهِرَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ سَبَقَ مِرَارًا كَثِيرَة التَّنْبِيه عَلَى نَظَائِرهَا.قَوْله: (وَرَآنِي عَزِلًا) ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: فَتْح الْعَيْن مَعَ كَسْر الزَّاي، وَالثَّانِي: ضَمّهمَا، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْكِتَاب بِاَلَّذِي لَا سِلَاح مَعَهُ، وَيُقَال لَهُ أَيْضًا: بِأَعْزَلَ، وَهُوَ أَشْهَر اِسْتِعْمَالًا.قَوْله: (حَجَفَة أَوْ دَرَقَة) هُمَا شَبِيهَتَانِ بِالتُّرْسِ.قَوْله: «اللَّهُمَّ اِبْغِنِي حَبِيبًا» أَيْ أَعْطِنِي.قَوْله: (ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ رَاسَلُونَا الصُّلْح) كَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (رَاسَلُونَا) مِنْ الْمُرَاسَلَة، وَفِي بَعْضهَا: (رَاسُّونَا) بِضَمِّ السِّين الْمُهْمَلَة الْمُشَدَّدَة، وَحَكَى الْقَاضِي فَتْحهَا أَيْضًا وَهُمَا بِمَعْنَى (رَاسَلُونَا) مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ: رَسَّ الْحَدِيث يَرُسُّهُ إِذَا اِبْتَدَأَهُ، وَقِيلَ: مِنْ رَسَّ بَيْنهمْ أَيْ أَصْلَحَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَاتَحُونَا، مِنْ قَوْلهمْ: بَلَغَنِي رَسّ مِنْ الْخَبَر، أَيْ أَوَّله، وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ: (وَاسَوْنَا) بِالْوَاوِ أَيْ اِتَّفَقْنَا نَحْنُ وَهُمْ عَلَى الصُّلْح، وَالْوَاو فيه بَدَل مِنْ الْهَمْزَة، وَهُوَ مِنْ الْأُسْوَة.قَوْله: «كُنْت تَبَعًا لِطَلْحَةَ» أَيْ خَادِمًا أَتْبَعهُ.قَوْله: «أَسْقِي فَرَسه وَأَحُسّهُ» أَيْ أَحُكّ ظَهْره بِالْمِحَسَّةِ لِأُزِيلَ عَنْهُ الْغُبَار وَنَحْوه.قَوْله: «أَتَيْت شَجَرَة فَكَسَحْت شَوْكهَا» أَيْ كَنَسْت مَا تَحْتهَا مِنْ الشَّوْك.قَوْله: (قُتِلَ اِبْن زُنَيْم) هُوَ بِضَمِّ الزَّاي وَفَتْح النُّون.قَوْله: «فَاخْتَرَطْت سَيْفِي» أَيْ سَلَلْته.قَوْله: (وَأَخَذْت سِلَاحهمْ فَجَعَلْته ضِغْثًا فِي يَدِي) الضِّغْث: الْحُزْمَة.قَوْله: (جَاءَ رَجُل مِنْ الْعَبَلَات يُقَال لَهُ مِكْرِز) هُوَ بِمِيمٍ مَكْسُورَة ثُمَّ كَافٍ ثُمَّ رَاءٍ مَكْسُورَة ثُمَّ زَاي. وَالْعَبَلَات: بِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة قَالَ الْجَوْهَرِيّ فِي الصِّحَاح: الْعَبَلَات بِفَتْحِ الْعَيْن وَالْبَاء مِنْ قُرَيْش، وَهُمْ أُمَيَّة الصُّغْرَى، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِمْ (عَبَلِيّ) تَرُدّهُ إِلَى الْوَاحِد، قَالَ: لِأَنَّ اِسْم أُمّهمْ عَبْلَة، قَالَ الْقَاضِي: أُمَيَّة الْأَصْغَر وَأَخَوَاهُ نَوْفَل وَعَبْد اللَّه بْن شَمْس بْن عَبْد مَنَافٍ نُسِبُوا إِلَى أُمّ لَهُمْ مِنْ بَنِي تَمِيم اِسْمهَا: عَبْلَة بِنْت عُبَيْد.قَوْله: (عَلَى فَرَس مُجَفَّف) هُوَ بِفَتْحِ الْجِيم وَفَتْح الْفَاء الْأُولَى الْمُشَدَّدَة، أَيْ عَلَيْهِ تِجْفَاف بِكَسْرِ التَّاء، وَهُوَ ثَوْب كَالْحُلِّ يَلْبَسهُ الْفَرَس لِيَقِيَهُ مِنْ السِّلَاح، وَجَمْعه: تَجَافِيف.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْء الْفُجُور وَثِنَاهُ» أَمَّا الْبَدْء فَبِفَتْحِ الْبَاء وَإِسْكَان الدَّال وَبِالْهَمْزِ، أَيْ اِبْتِدَاؤُهُ، وَأَمَّا (ثِنَاهُ) فَوَقَعَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (ثِنَاهُ) مُثَلَّثَة مَكْسُورَة، وَفِي بَعْضهَا: (ثُنْيَاهُ) بِضَمِّ الثَّاء وَبِيَاءٍ مُثَنَّاة تَحْت بَعْد النُّون، وَرَوَاهُمَا جَمِيعًا الْقَاضِي، وَذَكَرَ الثَّانِي عَنْ رِوَايَة اِبْن مَاهَانَ وَالْأَوَّل عَنْ غَيْره قَالَ: وَهُوَ الصَّوَاب أَيْ عَوْدَة ثَانِيَة.قَوْله: (بَنِي لِحْيَان) بِكَسْرِ اللَّام وَفَتْحهَا لُغَتَانِ.قَوْله: (لِمَنْ رَقِيَ الْجَبَل) وَقَوْله بَعْده (فَرَقِيت) كِلَاهُمَا بِكَسْرِ الْقَاف.قَوْله: (فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا بَيْننَا وَبَيْن بَنِي لِحْيَان جَبَل وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ) هَذِهِ اللَّفْظَة ضَبَطُوهَا بِوَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي وَغَيْره: أَحَدهمَا (وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ) بِضَمِّ الْهَاء عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر. وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْهَاء وَتَشْدِيد الْمِيم، أَيْ هَمُّوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَخَافُوا غَائِلَتهمْ، يُقَال: هَمَّنِي الْأَمْر وَأَهَمَّنِي، وَقِيلَ: هَمَّنِي أَذَابَنِي، وَأَهَمَّنِي: وَأَغَمَّنِي.قَوْله: «وَخَرَجْت بِفَرَسٍ لِطَلْحَةَ أُنَدِّيهِ» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (أُنَدِّيه) بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَة ثُمَّ نُون مَفْتُوحَة ثُمَّ دَال مَكْسُورَة مُشَدَّدَة، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي فِي الشَّرْح عَنْ أَحَد مِنْ رُوَاة مُسْلِم غَيْر هَذَا، وَنَقَلَهُ فِي الْمَشَارِق عَنْ جَمَاهِير الرُّوَاة، قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ عَنْ أَبِي الْحَذَّاء فِي مُسْلِم (أُبْدِيه) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة بَدَل النُّون، وَكَذَا قَالَهُ اِبْن قُتَيْبَة، أَيْ أُخْرِجهُ إِلَى الْبَادِيَة وَأُبْرِزهُ إِلَى مَوْضِع الْكَلَأ، وَكُلّ شَيْء أَظْهَرْته فَقَدْ أَبْدَيْته، وَالصَّوَاب رِوَايَة الْجُمْهُور بِالنُّونِ وَهِيَ رِوَايَة جَمِيع الْمُحَدِّثِينَ، وَقَوْل الْأَصْمَعِيّ وَأَبِي عُبَيْد فِي غَرِيبه وَالْأَزْهَرِيّ وَجَمَاهِير أَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب، وَمَعْنَاهُ: أَنْ يُورِد الْمَاشِيَة الْمَاء فَتُسْقَى قَلِيلًا ثُمَّ تُرْسَل فِي الْمَرْعَى، ثُمَّ تَرِد الْمَاء فَتَرِد قَلِيلًا، ثُمَّ تُرَدّ إِلَى الْمَرْعَى، قَالَ الْأَزْهَرِيّ: أَنْكَرَ اِبْن قُتَيْبَة عَلَى أَبِي عُبَيْد وَالْأَصْمَعِيّ كَوْنهمَا جَعَلَاهُ بِالنُّونِ، وَزَعَمَ أَنَّ الصَّوَاب بِالْبَاءِ، قَالَ الْأَزْهَرِيّ: أَخْطَأَ اِبْن قُتَيْبَة، وَالصَّوَاب قَوْل الْأَصْمَعِيّ.قَوْله: «فَأَصُكّ سَهْمًا فِي رَحْله حَتَّى خَلَصَ نَصْل السَّهْم إِلَى كَتِفه» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول الْمُعْتَمَدَة (رَحْله) بِالْحَاءِ، و(كَتِفه) بَعْدهَا فَاء، وَكَذَا نَقَلَهُ صَاحِب الْمَشَارِق وَالْمَطَالِع، وَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات وَالْأَوَّل وَهُوَ الْأَظْهَر، وَفِي بَعْضهَا: (رِجْله) بِالْجِيمِ و(كَعْبه) بِالْعَيْنِ ثُمَّ الْبَاء الْمُوَحَّدَة، قَالُوا: وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَأَصُكّهُ بِسَهْمٍ فِي نُغْض كَتِفه» قَالَ الْقَاضِي فِي الشَّرْح: هَذِهِ رِوَايَة شُيُوخنَا، وَهُوَ أَشْبَه بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ يُمْكِن أَنْ يُصِيب أَعْلَى مُؤْخِرَة الرَّحْل فَيُصِيب حِينَئِذٍ إِذَا أَنْفَذَهُ كَتِفه، وَمَعْنَى أَصُكّ: أَضْرِب.قَوْله: «فَمَا زِلْت أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِر بِهِمْ» أَيْ أَعْقِر خَيْلهمْ، وَمَعْنَى أَرْمِيهِمْ أَيْ بِالنَّبْلِ، قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ هُنَا: «أُرَدِّيهِمْ» بِالدَّالِ.قَوْله: «فَجَعَلْت أُرَدِّيهِمْ بِالْحِجَارَةِ» أَيْ أَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ الَّتِي تُسْقِطهُمْ وَتُنْزِلهُمْ.قَوْله: «جَعَلْت عَلَيْهِمْ آرَامًا مِنْ الْحِجَارَة» هُوَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَة ثُمَّ رَاء مَفْتُوحَة وَهِيَ الْأَعْلَام وَهِيَ حِجَارَة تُجْمَع وَتُنْصَب فِي الْمَفَازَة، يُهْتَدَى بِهَا، وَاحِدهَا (إِرَم) كَعِنَبٍ وَأَعْنَاب.قَوْله: «وَجَلَسْت عَلَى رَأْس قَرْن» هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَإِسْكَان الرَّاء، وَهُوَ كُلّ جَبَل صَغِير مُنْقَطِع عَنْ الْجَبَل الْكَبِير.قَوْله: «لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرْح» هُوَ بِفَتْحِ الْبَاء وَإِسْكَان الرَّاء أَيْ: شِدَّة.قَوْله: «يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَر» أَيْ: يَدْخُلُونَ مِنْ خِلَالهَا أَيْ: بَيْنَهَا.قَوْله: «مَاء يُقَال لَهُ: ذَا قَرَد» كَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة (ذَا) بِأَلِفٍ، وَفِي بَعْضهَا: (ذُو قَرَد) بِالْوَاوِ، وَهُوَ الْوَجْه.قَوْله: «فَخَلَّيْتهمْ عَنْهُ» هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَلَام مُشَدَّدَة غَيْر مَهْمُوزَة أَيْ طَرَدْتهمْ عَنْهُ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيث بِقَوْلِهِ: يَعْنِي أَجْلَيْتهمْ عَنْهُ بِالْجِيمِ، قَالَ الْقَاضِي: كَذَا رِوَايَتنَا فيه هُنَا غَيْر مَهْمُوز، قَالَ: وَأَصْله الْهَمْز فَسَهَّلَهُ، وَقَدْ جَاءَ مَهْمُوزًا بَعْد هَذَا فِي هَذَا الْحَدِيث.قَوْله: «فَأَصُكّهُ بِسَهْمٍ فِي نُغْضِ كَتِفه» هُوَ بِنُونٍ مَضْمُومَة ثُمَّ غَيْن مُعْجَمَة سَاكِنَة ثُمَّ ضَاد مُعْجَمَة، وَهُوَ الْعَظْم الرَّقِيق عَلَى طَرَف الْكَتِف، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ تَحَرُّكه، وَهُوَ النَّاغِض أَيْضًا.قَوْله: «يَا ثَكِلَتْهُ أُمّه أَكْوَعُهُ بُكْرَة؟ قُلْت: نَعَمْ» مَعْنَى ثَكِلَتْهُ أُمّه: فَقَدَتْهُ، وَقَوْله: (أَكْوَعه) هُوَ بِرَفْعِ الْعَيْن، أَيْ: أَنْتَ الْأَكْوَع الَّذِي كُنْت بُكْرَة هَذَا النَّهَار، وَلِهَذَا قَالَ: نَعَمْ، (وَبُكْرَة): مَنْصُوب غَيْر مَنُون، قَالَ أَهْل الْعَرَبِيَّة: يُقَال: أَتَيْته بُكْرَة بِالتَّنْوِينِ، إِذَا أَرَدْت أَنَّك لَقِيته بَاكِرًا فِي يَوْم غَيْر مُعَيَّن، قَالُوا: وَإِنْ أَرَدْت بُكْرَة يَوْم بِعَيْنِهِ قُلْت: أَتَيْته بُكْرَة، غَيْر مَصْرُوف؛ لِأَنَّهَا مِنْ الظُّرُوف غَيْر الْمُتَمَكِّنَة.قَوْله: «وَأَرْدَوْا فَرَسَيْنِ عَلَى ثَنِيَّة» قَالَ الْقَاضِي: رِوَايَة الْجُمْهُور بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِالْمُعْجَمَةِ، قَالَ: وَكِلَاهُمَا مُتَقَارِب الْمَعْنَى، فَبِالْمُعْجَمَةِ مَعْنَاهُ: خَلَّفُوهُمَا. وَالرَّذِيّ: الضَّعِيف مِنْ كُلّ شَيْء، وَبِالْمُهْمَلَةِ مَعْنَاهُ: أَهْلَكُوهُمَا وَأَتْعَبُوهُمَا حَتَّى أَسْقَطُوهُمَا وَتَرَكُوهُمَا، وَمِنْهُ: التَّرْدِيَة، وَأَرَدْت الْفَرَس الْفَارِس أَسْقَطْته.قَوْله: «وَلَحِقَنِي عَامِر بِسَطِيحَةٍ فيها مَذْقَة مِنْ لَبَن» السَّطِيحَة: إِنَاء مِنْ جُلُود سُطِحَ بَعْضهَا عَلَى بَعْض، وَالْمَذْقَة: بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الذَّال الْمُعْجَمَة، قَلِيل مِنْ لَبَن مَمْزُوج بِمَاءٍ.قَوْله: «وَهُوَ عَلَى الْمَاء الَّذِي حَلَأْتهُمْ عَنْهُ» كَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (حَلَأْتهمْ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالْهَمْز، وَفِي بَعْضهَا (حَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ) بِلَامٍ مُشَدَّدَة غَيْر مَهْمُوز، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه قَرِيبًا.قَوْله: «نَحَرَ نَاقَة مِنْ الْإِبِل الَّذِي اُسْتُنْفِذَتْ مِنْ الْقَوْم» كَذَا فِي أَكْثَر النُّسَخ (الَّذِي)، وَفِي بَعْضهَا: (الَّتِي) وَهُوَ أَوْجَه؛ لِأَنَّ الْإِبِل مُؤَنَّثَة، وَكَذَا أَسْمَاء الْجُمُوع مِنْ غَيْر الْآدَمِيِّينَ، وَالْأَوَّل صَحِيح أَيْضًا، وَأَعَادَ الضَّمِير إِلَى الْغَنِيمَة لَا إِلَى لَفْظ الْإِبِل.قَوْله: «ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذه» بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَيْ أَنْيَابه، وَقِيلَ: أَضْرَاسه، وَالصَّحِيح الْأَوَّل، وَسَبَقَ بَيَانه فِي كِتَاب الصِّيَام.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ خَيْر فُرْسَاننَا الْيَوْم أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْر رَجَّالَتنَا سَلَمَة» هَذَا فيه اِسْتِحْبَاب الثَّنَاء عَلَى الشُّجْعَان وَسَائِر أَهْل الْفَضَائِل لاسيما عِنْد صَنِيعهمْ الْجَمِيل، لِمَا فيه مِنْ التَّرْغِيب لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي الْإِكْثَار مِنْ ذَلِكَ الْجَمِيل، وَهَذَا كُلّه فِي حَقّ مَنْ يَأْمَن الْفِتْنَة عَلَيْهِ بِإِعْجَابٍ وَنَحْوه.قَوْله: «ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَيْنِ: سَهْم الْفَارِس وَسَهْم الرَّاجِل فَجَمَعَهُمَا لِي» هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ الزَّائِد عَلَى سَهْم الرَّاجِل كَانَ نَفْلًا، وَهُوَ حَقِيق بِاسْتِحْقَاقِ النَّفْل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِبَدِيعِ صُنْعه فِي هَذِهِ الْغَزْوَة.قَوْله: «وَكَانَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار لَا يُسْبَق شَدًّا» يَعْنِي عَدْوًا عَلَى الرِّجْلَيْنِ.قَوْله: «فَطَفَرْت» أَيْ وَثَبْت وَقَفَزْت.قَوْله: «فَرَبَطْت عَلَيْهِ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ أَسْتَبْقِي نَفَسِي» مَعْنَى رَبَطْت حَبَسْت نَفْسِي عَنْ الْجَرْي الشَّدِيد، وَالشَّرَف: مَا اِرْتَفَعَ مِنْ الْأَرْض. وَقَوْله: (أَسْتَبْقِي نَفَسِي) بِفَتْحِ الْفَاء أَيْ لِئَلَّا يَقْطَعنِي الْبَهْر، وَفِي هَذَا دَلِيل لِجَوَازِ الْمُسَابَقَة عَلَى الْأَقْدَام، وَهُوَ جَائِز بِلَا خِلَاف إِذَا تَسَابَقَا بِلَا عِوَض، فَإِنْ تَسَابَقَا عَلَى عِوَض فَفِي صِحَّتهَا خِلَاف، الْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا: لَا تَصِحّ.قَوْله: (فَجَعَلَ عَمِّي عَامِر يَرْتَجِز بِالْقَوْمِ) هَكَذَا قَالَ هُنَا (عَمِّي) وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيث أَبِي الطَّاهِر عَنْ اِبْن وَهْب أَنَّهُ قَالَ: (أَخِي) فَلَعَلَّهُ كَانَ أَخَاهُ مِنْ الرَّضَاعَة، وَكَانَ عَمّه مِنْ النَّسَب.قَوْله: (يَخْطِر بِسَيْفِهِ) هُوَ بِكَسْرِ الطَّاء أَيْ: يَرْفَعهُ مَرَّة وَيَضَعهُ أُخْرَى، وَمِثْله خَطَرَ الْبَعِير بِذَنَبِهِ يَخْطِر بِالْكَسْرِ إِذَا رَفَعَهُ مَرَّة وَوَضَعَهُ مَرَّة.قَوْله: (شَاكِ السِّلَاح) أَيْ: تَامّ السِّلَاح، يُقَال: رَجُل شَاكِي السِّلَاح، وَشَاكِ السِّلَاح وَشَاك فِي السِّلَاح مِنْ الشَّوْكَة، وَهِيَ الْقُوَّة، وَالشَّوْكَة أَيْضًا: السِّلَاح، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}.قَوْله: (بَطَل مُجَرَّب) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء أَيْ: مُجَرَّب بِالشَّجَاعَةِ وَقَهْر الْفُرْسَان، وَالْبَطَل الشُّجَاع، وَيُقَال: بَطُلَ الرَّجُل بِضَمِّ الطَّاء يَبْطُل بَطَالَة وَبُطُولَة أَيْ: صَارَ شُجَاعًا.قَوْله: (بَطَل مُغَامِر) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة أَيْ: يَرْكَب غَمَرَات الْحَرْب وَشَدَائِدهَا وَيُلْقِي نَفْسه فيها.قَوْله: (وَذَهَبَ عَامِر يُسْفِل لَهُ) أَيْ: يَضْرِبهُ مِنْ أَسْفَله وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَإِسْكَان السِّين وَضَمّ الْفَاء.قَوْله: (وَهُوَ أَرْمَد) قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: رَمِدَ الْإِنْسَان بِكَسْرِ الْمِيم يَرْمَد بِفَتْحِهَا رَمَدًا فَهُوَ رَمِد وَأَرْمَد، إِذْ هَاجَتْ عَيْنه.قَوْله: (أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَره) حَيْدَرَة اِسْم لِلْأَسَدِ، وَكَانَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَدْ سُمِّيَ أَسَدًا فِي أَوَّل وِلَادَته، وَكَانَ (مَرْحَب) قَدْ رَأَى فِي الْمَنَام أَنَّ أَسَدًا يَقْتُلهُ فَذَكَّرَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ذَلِكَ لِيُخِيفَهُ وَيُضْعِف نَفْسه، قَالُوا: وَكَانَتْ أُمّ عَلِيّ سَمَّتْهُ أَوَّل وِلَادَته أَسَدًا بِاسْمِ جَدّه لِأُمِّهِ أَسَد بْن هِشَام بْن عَبْد مَنَافٍ، وَكَانَ أَبُو طَالِب غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ سَمَّاهُ عَلِيًّا، وَسُمِّيَ الْأَسَد حَيْدَرَة لِغِلَظِهِ، وَالْحَادِر: الْغَلِيظ الْقَوِيّ، وَمُرَاده أَنَا الْأَسَد عَلَى جُرْأَته وَإِقْدَامه وَقُوَّته.قَوْله: (أُوفيهمْ بِالصَّاعِ كَيْل السَّنْدَرَهْ) مَعْنَاهُ: أَقْتُل الْأَعْدَاء قَتْلًا وَاسِعًا ذَرِيعًا، وَالسَّنْدَرَة: مِكْيَال وَاسِع، وَقِيلَ: هِيَ الْعَجَلَة، أَيْ أَقْتُلهُمْ عَاجِلًا، وَقِيلَ: مَأْخُوذ مِنْ السَّنْدَرَة، وَهِيَ شَجَرَة الصَّنَوْبَر يُعْمَل مِنْهَا النَّبْل وَالْقِسِيّ.قَوْله: (فَضَرَبَ رَأْس مَرْحَب) يَعْنِي عَلِيًّا فَقَتَلَهُ، هَذَا هُوَ الْأَصَحّ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ قَاتِل مَرْحَب، وَقِيلَ: إِنَّ قَاتِل مَرْحَب هُوَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ، قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ فِي كِتَابه الدُّرَر فِي مُخْتَصَر السِّيَر: قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق: إِنَّ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ هُوَ قَاتِله.قَالَ: وَقَالَ غَيْره: إِنَّمَا كَانَ قَاتِله عَلِيًّا، قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْدنَا، ثُمَّ رَوَى ذَلِكَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَلَمَة وَبُرَيْدَةَ، قَالَ اِبْن الْأَثِير: الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَر أَهْل الْحَدِيث وَأَهْل السِّيَر أَنَّ عَلِيًّا هُوَ قَاتِله. وَاَللَّه أَعْلَم.وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنْوَاعًا مِنْ الْعِلْم سِوَى مَا سَبَقَ التَّنْبِيه عَلَيْهِ.مِنْهَا: أَرْبَع مُعْجِزَات لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِحْدَاهَا: تَكْثِير مَاء الْحُدَيْبِيَة، وَالثَّانِيَة: إِبْرَاء عَيْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَالثَّالِثَة: الْإِخْبَار بِأَنَّهُ يَفْتَح اللَّه عَلَى يَدَيْهِ، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيح بِهِ فِي رِوَايَة غَيْر مُسْلِم هَذِهِ، وَالرَّابِعَة: إِخْبَاره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ يَقِرُّونَ فِي غَطَفَان، وَكَانَ كَذَلِكَ.وَمِنْهَا: جَوَاز الصُّلْح مَعَ الْعَدُوّ.وَمِنْهَا: بَعْث الطَّلَائِع وَجَوَاز الْمُسَابَقَة عَلَى الْأَرْجُل بِلَا عِوَض، وَفَضِيلَة الشَّجَاعَة وَالْقُوَّة.وَمِنْهَا: مَنَاقِب سَلَمَة بْن الْأَكْوَع، وَأَبِي قَتَادَةَ، وَالْأَحْزَم الْأَسْعَدِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.وَمِنْهَا: جَوَاز الثَّنَاء عَلَى مَنْ فَعَلَ جَمِيلًا وَاسْتِحْبَاب ذَلِكَ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَصْلَحَة كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا، وَمِنْهَا: جَوَاز عَقْر خَيْل الْعَدُوّ فِي الْقِتَال، وَاسْتِحْبَاب الرَّجَز فِي الْحَرْب، وَجَوَاز قَوْل الرَّامِي وَالطَّاعِن وَالضَّارِب: خُذْهَا وَأَنَا فُلَان أَوْ اِبْن فُلَان.وَمِنْهَا: جَوَاز الْأَكْل مِنْ الْغَنِيمَة وَاسْتِحْبَاب التَّنْفِيل مِنْهَا لِمَنْ صَنَعَ صَنِيعًا جَمِيلًا فِي الْحَرْب، وَجَوَاز الْإِرْدَاف عَلَى الدَّابَّة الْمُطِيقَة، وَجَوَاز الْمُبَارَزَة بِغَيْرِ إِذْن الْإِمَام كَمَا بَارَزَ عَامِر. وَمِنْهَا: مَا كَانَتْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُبّ الشَّهَادَة وَالْحِرْص عَلَيْهَا.وَمِنْهَا: إِلْقَاء النَّفْس فِي غَمَرَات الْقِتَال، وَقَدْ اِتَّفَقُوا عَلَى جَوَاز التَّغْرِير بِالنَّفْسِ فِي الْجِهَاد فِي الْمُبَارَزَة وَنَحْوهَا.وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي حَرْب الْكُفَّار بِسَبَبِ الْقِتَال يَكُون شَهِيدًا سَوَاء مَاتَ بِسِلَاحِهِمْ أَوْ رَمَتْهُ دَابَّة أَوْ غَيْرهَا، أَوْ عَادَ عَلَيْهِ سِلَاحه كَمَا جَرَى لِعَامِرٍ.وَمِنْهَا: تَفَقُّد الْإِمَام الْجَيْش وَمَنْ رَآهُ بِلَا سِلَاح أَعْطَاهُ سِلَاحًا.
|